كلمة العدد
كلمة العدد 19

بسم الله الرحمن الرحيم

في ظلّ أجواء ملبّدة بغيوم الأحداث السياسيّة المتسارعة، ووسط ظروف دوليّة متقلّبة، ومواقف عالميّة متناقضة، تطلّ مجلة الدراسات الإفريقيّة التي يصدرها مركز الدراسات الإفريقيّة التّابع للعتبة العباسيّة المقدسة، على قرّائها الأعزّاء في عددها الجديد الذي يحمل بين طيّاته عصارة أفكار باحثي المجلة وكتّابها الأكارم الذين لم يبخلوا يوماً على المجلة أو القرّاء الأفاضل بأفكارهم ورؤاهم التنويرية، وتحليلاتهم الناضجة التي تجعل الصورة أكثر وضوحاً وإشراقاً في خضم هذا الكم الهائل من التوجهات والأفكار والرؤى المتشابكة حول مختلف القضايا والأحداث الخاصة بالقارة الإفريقية المعطاء.

ويغلب على مقالات وأبحاث هذا العدد هو تناول القضايا الدولية والأحداث السياسية المتعلقة بالقارة الإفريقية سواء التي حدثت في الماضي أو التي تحدث الآن، وربما يرجع السبب في ذلك إلى ما يشهده عالمنا المعاصر في هذه الأوقات من زوابع سياسية، وأحداث تعصف بالواقع الدولي، وتجتاح دوله بصورة مخيفة جداً، منطلقها الصراع المحموم  بين الشرق والغرب، أو قل بين دول الشمال العالمي ودول الجنوب، أو قل بين سيّد لا يريد أن يعترف بأن العالم أضحى يشهد بوادر مخاض جديد ليعلن عن ولادة عالم جديد تتغيّر فيه أقطاب النفوذ والهيمنة، ويتوّج فيه أسياد جدد لهذا العالم المتغيّر، ولكن صاحب النفوذ القديم لا يريد التسليم بهذا الوضع الجديد فتراه يضرب يميناً وشمالاً مستخدماً كل ما يملك من أدوات متاحة لديه، متخذاً هذه المرة الحرب الاقتصادية والتجارية وسيلة في صراعه، لأنه موقن بأن الاقتصاد اليوم هو العامل المؤثر، ومن يملك أزراره ومفاتيحه هو من يسيطر على العالم، وليست القوة العسكرية والآلة الحربية، كما كان سابقاً.

إن أمريكا وفي ظل نظامها السياسي الحالي أدركت بأن شمس الهيمنة والسيطرة على العالم بدأت تنزوي عنها شيئاً فشيئاً، وباتت قوى جديدة كالصين ودول أخرى تزاحمها على عرش النفوذ العالمي، وبطبيعة الحال ستكون هناك مناطق كثيرة من هذا العالم هي ساحات حرب، ومناطق صراع بين هذه الدول، وما لا شك فيه ستكون من بينها القارة الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية الهائلة، والممتلكة لخزين بشري ضخم، ومساحة جغرافية مترامية الأطراف، وموقع جيوسياسي مهم، وتنوّع ديموغرافي واسع.

من هنا نجد أن المنافسة أخذت تشتد بين الصين وأمريكا على تأمين الوصول إلى هذه الموارد لتلبية احتياجاتهما الاقتصادية والصناعية، فراحت الشركات الصينية تستثمر بكثافة في القطاع الاقتصادي في أفريقيا، فهي ترى في أفريقيا شريكاً مهماً في مبادراتها العالمية مثل (مبادرة الحزام والطريق)، ومصدراً للموارد وسوقاً لمنتجاتها، فأصبحت الصين بالفعل أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث تستورد كميات كبيرة من المواد الخام وتصدر إليها السلع المصنعة.

فيما تسعى أمريكا إلى موازنة النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا، وتعزيز شراكاتها مع الدول الأفريقية وتكثيف استثماراتها في مختلف القطاعات لتنويع مصادر إمداداتها من المعادن الحيوية، والموارد الطبيعية الأخرى، وتسعى كذلك إلى تعزيز تجارتها واستثماراتها في أفريقيا من خلال مبادرات اقتصادية وتجارية، مثل (مبادرة ازدهار أفريقيا).

مضافاً إلى أن إفريقيا تشهد نمواً سكانياً سريعاً، وتضم شريحة متزايدة من الشباب، مما يجعلها سوقاً واعدة ذات إمكانات استهلاكية كبيرة في المستقبل.

ولذا في ظل التنافس المعاصر بين الصين وأمريكا تكتسب أفريقيا أهمية استراتيجية كبرى بوصفها مصدراً للموارد، وسوقاً نامياً، وساحة للتنافس على النفوذ والقيم.

فيتعين من هذا المنطلق على الشعوب الإفريقية وفعالياتها الشعبية والفكرية والثقافية ونخبها السياسية وأنظمتها لحاكمة أن تتعامل بحذر وذكاء مع هذا التنافس لتحقيق مصالحها وتعزيز التنمية المستدامة والاستقرار في القارة، وأن تجعل مصالحها الوطنية والقومية فوق كل اعتبار.

إنّ رياح التغيير التي بدأت نسائمها تهب على العالم لن تكون إفريقيا بمنأى عنها، وستشهد أفريقيا تفاعلاً متزايداً مع القوى العالمية الصاعدة والتحديات المشتركة، فعلى شعوبها ودولها التركيز على التنمية الداخلية وأن تولي أهمية كبرى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن لا تنخرط في الصراعات العالمية بين القوى الكبرى، وأن تسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من العلاقات المتعددة، ما يضمن لها تنويع شراكاتها مع مختلف القوى العالمية (مثل الصين، وأمريكا، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والهند، وغيرها) بهدف الحصول على أفضل الشروط والمزايا من كل طرف دون الارتباط بشكل حصري بأي منها، وهذا يسمح لها بالحفاظ على قدر من الاستقلالية في صنع القرار.

من هنا تحرص مجلة الدراسات الإفريقية عبر أبحاثها ودراساتها المختلفة على التأكيد على أهمية وعي شعوب القارة الأفريقية لمصالحها المصيرية، لأنه يساعد في فهم الآثار العميقة للاستعمار على الهوية والثقافة والاقتصاد، وتمكين الشعوب من تجاوز هذه الآثار، وبناء مستقبل يعكس تطلعاتها الخاصة، وبالتالي يُفضي إلى رفض التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية للقوى الخارجية، وتعزيز الاعتماد على الذات والموارد المحلية، ويُرسخ الشعور بالانتماء إلى قارة واحدة ذات تاريخ وتحديات مشتركة، مما يعزز التعاون والتكامل الإقليمي في مختلف المجالات.

ولن تألو المجلة جهداً، أو تتدخر وسعاً في المساهمة في إشاعة روح الوعي بين أوساط النخب الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، بأهمية الحفاظ على مصالح القارة وشعوبها، ونبذ كل ما من شأنه يضعف روح التعاون والتضامن والوحدة بين دول القارة وشعوبها.

وإدارة المجلة تهيب بالسادة الباحثين الكرام والأساتذة الأعزاء أن يرفدوا المجلة بأبحاثهم القيمة، وأفكارهم النيّرة خدمة للمجتمع الإنساني، وتشكر إدارة المجلة السادة الباحثين والكتّاب الذين كانوا سبباً في إدامة عطاء المجلة العلمي والفكري متمنين لهم دوام الموفقية والسداد.